منذ العملية العسكرية التي قامت بها حركة حماس في العمق الإسرائيلي، عادت تهمة معاداة السامية وبقوة الى المشهد السياسي الفرنسي. وبعد أن اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سابقًا بأن معاداة الصهيونية ما هي إلا طريقة ملتوية يريد مستخدمها إخفاء معاداته للسامية، صار هذا الخلط الرئاسي، الذي إن لم يُشر الى سوء نية في الاجتهاد اللفظي، فهو يدل على جهلٍ في القراءة السياسية وفي التحليل التاريخي، نبراسًا سرديًا لكل المدافعين عن السياسات الإسرائيلية من نخب سياسية ونخب ثقافية.
وفي حديثه مع احدى المحطات التلفزية الفرنسية التي تروّج للسياسات الإسرائيلية، واجهت المحاورة ناطقًا باسم مسجد باريس برقم مرتفع سجلته الأجهزة الأمنية للعمليات التي يمكن اعتبارها معادية للسامية، فما كان منه إلا أن استغرب الرقم مشيرًا إلى جهله به ومؤكدًا إدانته. هذا الاستغراب دفع محاورته الى التلميح بأنه يريد أن ينفي وقوعه او أنه يُشكّك بحجمه. وقد ضجّت مختلف وسائل الاعلام بإجابة الناطق وصار دريئة يُرمى عليها مختلف أنواع القذائف الاتهامية والتنديدية على اعتبار أنه، ومن منطقٍ إسلاموي، يُشكّك بالرقم وبالتالي فهو من المعادين للسامية. واضطر المذكور بأن يعتذر عن سؤاله الاستفهامي مبررًا إياه بجهله بالرقم الحقيقي ونافيًا عن نفسه أي نيّة للتشكيك.
دومينيك دو فيلبان، رئيس الوزراء السابق، وصاحب الخطاب الأخلاقي المشهور رفضًا للغزو الأميركي للعراق أمام مجلس الأمن الدولي سنة 2003 حينما كان وزيرًا للخارجية، خرج في أكثر من مقابلة يحاول أن يضع الأمور في نصابها بعيدًا عن سعي جميع المعلقين والسياسيين الى اعتبار تاريخ الصراع قد بدأ في السابع من تشرين الأول / أكتوبر. وقد ذكّر بتاريخ الصراع وبفشل كل عمليات السلام وبطبيعة قطاع غزة الذي اعتبره سجنًا بسماءٍ مفتوحة. وعلى الرغم من اعتباره أن العملية العسكرية التي قامت بها حماس هي جريمة حرب، إلا أنه لم يسلم من الهجوم اللاذع من قبل محاوريه وضيوفهم الذين، وإن لم يتهموه بجلاء بمعاداة السامية، إلا أنهم ألمحوا إلى ذلك بشكل موارب. كما اتهمه محامٍ صهيوني قريب من إدارة نتنياهو وله تعليق يومي على التلفزة الفرنسية، بأنه مقرّب من الدولة القطرية وهذا ما يدفع به لمثل هذا الموقف.
في حين أن مائير حبيب، وهو نائب عن مقعد الفرنسيين في الخارج وعضو حزب الجمهوريين وصديق شخصي لكل القادة المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية، صار يوزع الاتهامات بمعاداة السامية يوميًا ضد كل من تخوّل له نفسه بأن يندد بالقصف الوحشي الإسرائيلي على المدنيين، جاملاً السياسيين والكتاب والصحافيين والفنانين إن هم تجرأوا. ومن آخر إنجازاته التي فضحت جانبًا له دلالاته، وكان مخفيًا في تركيبة مجلس النواب الفرنسي، علّق على تقديم صحافية له بأنه يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والفرنسية، بأن هناك ستين نائبًا فرنسيًا سواه ممن يحملون أيضًا الجنسية الإسرائيلية. ولا يشعر هذا النائب "الفرنسي" بأي حرجٍ في حصر كل مداخلاته النيابية وأسئلته الموجهة الى الحكومة، ومنذ انتخابه، بالشأن الإسرائيلي وبضرورة تخلي فرنسا أكثر عن سياساتها الشرق أوسطية التي تميّزت نسبيًا بها خلال عهدي فرانسوا ميتران وجاك شيراك، والتي يعتبرها حبيب بأنها عزّزت من ارتفاع معدلات معاداة السامية في المجتمع الفرنسي.
من جهة أخرى، وعلى الرغم من استسهال استخدامها إعلاميًا، تبين لرجال القانون الفرنسيين بأن تهمة معاداة السامية، وهي تهمة خطيرة إن ثبتت يمكن لها بأن تودي بمستقبل من تلقى عليه وظيفيًا ومجتمعيًا، صعبة الاثبات إن لم تكن صريحة المعاني. وقد دفع هذا التنويه القانوني بوزير الداخلية جيرار دارمانان للميل نحو استخدام تهمة أخرى يمكن الاجتهاد بإثباتها، وهي تهمة التحريض على الإرهاب أو "مديح الإرهاب". وتحت هذه المظلة الواسعة يمكن ادراج أي تعبير يميل من خلاله صاحبه الى أن يعتبر حماس هي حركة مقاومة او ان يشير الى حجمها السياسي والشعبي في تحليلٍ مجردٍ من أي موقفٍ مؤيد.
إيمانويل فالس، رئيس وزراء اشتراكي سابق ومرتمي في أحضان جميع القوى السياسية التي يمكن لها ان تستوعبه انتخابيًا أو منصبيًا، برر ضرورة منع التظاهرات التضامنية مع الشعب الفلسطيني في حوارٍ متلفزٍ بأن شعار "الموت لليهود" منتشر فيها. وقد ثبت بالدليل القاطع وعبر شهادات رجال الشرطة حتى بأنه يكذب، ولكنه لا يعتذر.
وبعد أن ندّدت أحزابٌ عدة بمسيرة تضامنية قامت منذ سنوات ضد الرهاب من الإسلام مشيرة إلى ضرورة إدانة الشخصيات اليسارية الفرنسية التي شاركت بها، تتبنى الدولة الفرنسية مسيرة تندد بمعاداة السامية خرجت منذ أيام، تسابق وتزاحم وتناطح جميع مسؤولي البلاد للبروز في صورها وفي الصفوف الأولى. وامتنع حزب فرنسا الأبية وكثير من المتضامنين مع الشعب الفلسطيني عن حضورها مبررين ذلك بأن هدفها ليس فقط التنديد المشروع بعنصرية دينية مقيتة، بل هو دعم دولة إسرائيل. وقد اعتبر القائمون عليها بأن كل من لم يشارك فهو معادٍ للسامية. معاداة السامية صارت تهمة من لا تهمة لهم.
*المصدر: نداء الوطن